١٠ سنوات علي صمت نزار قباني

١٠ سنوات علي صمت نزار قباني
--------------------------
--------------
المصري اليوم ٣٠/٤/٢٠٠٨

هل بمقدور المرء أن يحب دون أن يعشق كلمات الشاعر الراحل نزار قباني.. هل بإمكان القلب - أي قلب - أن يدق علي إيقاع غير إيقاع هذا الشاعر الذي رسم للحب ملامح جديدة لم نكن نعرفها.. هل نستطيع دراسة القصيدة العربية الحديثة دون التوقف طويلاً أمام تجربة نزار مع الجمال والألم.. والدموع؟!

كيف يمر يوم ٣٠ أبريل دون أن نتذكر نزار قباني.. فمنذ ١٠ سنوات بالضبط، سكتت الكلمات بعد أن سكت القلب، وهدأت الشرايين، ليرحل عن عالمنا شاعر فذ عرف كيف يحفر لنفسه مكانًا متفردًا في التجربة الإبداعية العربية.

هذه الرحلة تحاول استدعاء نزار قباني بعد ١٠ سنوات علي رحيله.. استدعاء نزار الإنسان.. نزار التكوين.. نزار التجربة.. نزار الحب والهجرة والغربة.. وفي كل «نزار» قصة.. وقصيدة.. ودمعة حزينة!

«هذي دمشق وهذي الكأس والراح

إني أحب.. وبعض الحب ذباح

أنا الدمشقي.. لو شرحتمُ جسدي

لسال منه عناقيد وتفاح

ولو فتحتم شراييني بمديتكم

سمعتم في دمي أصوات من راحوا»

«هنا جذوري، هنا قلبي، هنا لغتي»، هنا في الشام حيث ولد نزار قباني، «كل أطفال العالم يقطعون لهم حبل مشيمتهم عندما يولدون إلا أنا.. فإن حبل مشيمتي لم يزل مشدودًا إلي رحم دمشق منذ ٢١ آذار (مارس) ١٩٢٣»، كان الربيع وقتها يستعد لفتح حقائبه الخضراء والعشب يتهيأ لغزو السهول والتلال، «الأرض وأمي حملتا في وقت واحد.. ووضعتا في وقت واحد».

ولمنزله البسيط العتيق في (مئذنة الشحم) بدمشق القديمة مكان كبير وعظيم في قلب نزار «هل تعرفون معني أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة، كان اصطدامي بالجمال قدرًا يوميا،

كنت إذا تعثرت أتعثر بجناح حمامة.. وإذا سقطت أسقط علي حضن وردة، هذا البيت الدمشقي الجميل استحوذ علي كل مشاعري وأفقدني شهية الخروج إلي الزقاق، ومن هنا نشأ عندي هذا الحس البيتوتي الذي رافقني في كل مراحل حياتي».

وحيث كانت الأطفال تخرج لتلتقي وتلهو كان يجلس منزله الذي عشقه بكل كيانه وكذلك تحكي ابنته هدباء قباني: «كانت جدتي تدلله باسم «نزوري» وكان طفلاً ضائعًا بين أحواض الورد وبين عريشة الياسمين وأشجار الليمون والسفرجل ونافورة المياه الزرقاء في البيت، وهائمًا مع أراب الحمام والسنونو و«قطط البيت»، كان ضائعًا بين الجمال الذي ظل في أحلامه حتي آخر لحظات حياته وكتب يناجيه من مدريد:

«وأين رحات منزلنا الكبير.. وأين نعماه؟

وأين مدارج الشمشير.. تضحك في زواياه؟

وأين طفولتي فيه..

أجرجر ذيل قطته وآكل من عريشته

واقطف من (بنَفْشاه)..»

في منزله أيضًا تعلم أول حروف الوطنية علي يد والده توفيق قباني الذي كان أحد رواد المقاومة ضد الانتداب الفرنسي في سوريا آنذاك وطالما جمع الزعماء السياسيين في ايوان المنزل ليخطبوا في الناس، كما شهد هذا المنزل خطط الإضرابات والمظاهرات ووسائل المقاومة،

ولم يكن الطفل الواقف خلف الأبواب يسترق الهمسات بقادر علي فهم هذه الأمور حتي جاءت اللحظة التي أدرك فيها ما يجري عندما دخل عساكر السنغال - التابعون للجيش الفرنسي - في ساعات الفجر الأولي بيتهم بالبنادق والحراب ليأخذوا معهم أباه إلي المعتقل الصحراوي،

عندها: «عرفت أن أبي كان يمتهن عملاً آخر غير صناعة الحلويات كان يمتهن صناعة الحرية، فقد كان أبي يصنع الحلوي ويصنع الثورة وكنت أعجب بهذه الازدواجية فيه وأدهش كيف يستطيع أن يجمع بين الحلاوة وبين الضراوة».

درس نزار الحقوق إلا أنه لم يجد نفسه فيها «القضية الوحيدة التي ترافعت عنها هي الجمال والبريء الوحيد الذدي دافعت عنه هو الشعر»، كانت رحلته الأولي خارج دمشق هي الرحلة التي نقلت حياته من مجرد طالب بالحقوق إلي شاعر من أعظم شعراء العرب وأوائل رواد الشعر الحديث في سوريا والعالم العربي، «حين كانت طيور النورس تلمس الزبد الأبيض علي أغصان السفينة المبحرة من بيروت إلي إيطاليا في صيف ١٩٣٩

وفيما كان رفاق الرحلة من الطلاب والطالبات يضحكون ويتشمسون ويأخذون الصور التذكارية علي ظهر السفينة كنت أقف وحدي في مقدمتها أدمدم الكلمة الأولي من أول بيت شعر نظمته في حياتي.. وللمرة الأولي وفي سن السادسة عشرة وبعد رحلة طويلة في البحث عن نفسي نمت شاعرًا.» بعدها أصدر أول دواوينه «قالت لي السمراء» عام ١٩٤٤ وطبعه علي نفقته الخاصة بمساعدة والدته:

«قلبي كمنفضة الرماد.. أنا

إن تنبشي ما فيه.. تحترقي

شعري أنا قلبي.. ويظلمني

من لا يري قلبي علي الورق»

طلب من أستاذه بكلية الحقوق آنذاك منير العجلاني أن يقدم له ديوانه فكتب «وكأني أجد في طبيعتك الشاعرة روائح بودلير وفيرلين والبير سامان وغيرهم من أصحاب الشعر الرمزي والشعر النقي.. لا أسأل الله إلا شيئًا واحدًا أن تبقي كما أنت طفلاً يصور.. ويعشق كأنه ملاك يمشي علي الأرض ويعيش في السماء، ومن يدري لعل القدر يخبئ لنا فيك شاعرًا عالميا تسبح أشعاره من بلد إلي بلد وتمر من أمة إلي أمة».

وكان لانتحار أخته بسبب رفضها الزواج من رجل لا تحبه أثر عميق علي شعر نزار، «حين مشيت في جنازة أختي وأنا في الخامسة عشرة من عمري كان الحب يمشي إلي جانبي في الجنازة ويشد علي ذراعي ويبكي»،

ومنذ دخل نزار مملكة الشعر بديوانه الأول اصبحت حياته معركة دائمة لما ضمه هذا الديوان من تمرد وتغيير في شكل ومضمون القصيدة العربية المتوارثة حيث أدخل ألفاظًا وصورًا تناول من خلالها المرأة بأسلوب جديد وغير مألوف فقد هرب من القوالب الجامدة وقيود الشعر قائلاً: «مع اللغة لعبت بديمقراطية وروح رياضية لم أتفاصح ولم أتفلسف

ولم أغش بورق اللعب ولم أكسر زجاج اللغة، ولكنني مسحته بالماء والصابون ولم أخرق أوراق القاموس ولكنني قمت بعملية (تطبيع) بيني وبين الناس»، وعلي الرغم من أنه دعا إلي لغة شعرية بعيدة عن التعقيد والتعقيد إلا أنه أكد عدم الاستخفاف باللغة أو ضياعها أو استعارة العاميات بدلاً منها.

عمل بعد تخرجه دبلوماسيا في وزارة الخارجية السورية وسافر بعد ديوانه «قالت لي السمراء» للعمل في القاهرة التي تعلق بها أشد التعلق فكان يراها منارة الفن وواحة الشعر واستنكر عليها ما كتبه بعض النقاد والشيوخ عن شعره واصفين إياه بالإباحية واستجداء شهوات الشباب:

«تستبد الأحزان بي.. فأنادي

آه يا مصر من بني قحطان

تاجروا فيك.. ساوموك.. استباحوك..

وباعوك كاذبات الأماني

حبسوا الماء عن شفاه اليتامي

وأراقوه في شفاه الغواني

آه يا مصر.. كم تعانين منهم

والكبير الكبير.. دومًا يعاني

مِصرُ.. يا مِصرُ.. إن عشقي خطير

فاغفري لي إذا أضعت اتزاني»

ظل بالقاهرة حتي عام ١٩٤٩ سافر بعدها إلي لندن التي مكث فيها حتي ١٩٥٥ وكانت رحلة غربته الطويلة تنعكس علي شعره بشكل مباشر فتظهر مراحل التطور الشعري والفكري لنزار وكذلك تدعم مرارة الفقدان التي لازمت العاشق الدمشقي بدءًا من وفاة أبيه توفيق قباني:

«أبي .. يا أبي.. إن تاريخ طيب

وراءك يمشي، فلا تعتب

حملتك في صحو عيني حتي

تهيأ للناس أني أبي..

أشيلك حتي نبرة صوتي

فكيف ذهبت.. ولازلت بي؟

إذا فُلَّةُ الدار أعطت لدينا

ففي البيت ألف فمٍ مذهب

فتحنا لتموز أبوابنا

ففي الصيف، لابدُ، يأتي أبي»

وظل نزار يدافع عن شعره وعن فكرته التي يعبر بها عن رفضه قيود المجتمع الشرقي الذي يستعبد المرأة وينظر لها نظرة دونية ورد علي من اتهموه من المثقفين بحصر المرأة في زاوية جنسية وطالبوا بتكفيره قائلاً:

«يقول عني الأغبياء أني دخلت إلي مقاصر النساء وما خرجت

ويطالبون بنصب مشنقتي لأني عن شؤون حبيبتي شعرا كتبت

أنا لم أتاجر - مثل غيري - بالحشيش.. ولا سرقت ولا قتلت

لكنني أحببت في وضح النهار.. فهل تراني قد كفرت؟!»

واستمرت الهجمات علي نزار بل كادت أن تبلغ ذروتها عندما كتب في عام ١٩٥٤ قصيدته «خبز وحشيش وقمر» التي انتقد فيها النظام السوري والمعتقدات الدينية القديمة، وثار المجتمع السوري وطالبوهم أيضًا بتكفيره وناقشوا منع دخوله دمشق في البرلمان السوري ليكون بذلك أول شاعر تناقش أشعاره في البرلمان،

«ضربتني دمشق بالحجارة والبندورة والبيض الفاسد حين نشرت في عام ١٩٥٤ قصيدتي خبز وحشيش وقمر وكانت هذه القصيدة أول مواجهة بالسلاح الأبيض بيني وبين الخرافة»:

«ببلادي

ببلاد الأنبياء..

وبلاد البسطاء..

ماضغي التبغ وتجار الخدر..

ما الذي يفعله فينا القمر؟

فنضيع الكبرياء..

ونعيش لنستجدي السماء..

ما الذي عند السماء

لكسالي.. ضعفاء..

يستحيلون إلي موتي إذا عاش القمر..

ويهزون قبور الأولياء..

علَّها ترزقهم رزًا.. وأطفالاً..

قبور الأولياء»

طار نزار من لندن إلي مدريد التي غيرت مسار قصيدته الشعرية وقلبتها رأسًا علي عقب، «القصيدة العربية عندما وصلت إلي إسبانيا كانت مغطاة بقشرة كثيفة من الغبار الصحراوي.. وحين دخلت منطقة الماء والبرودة في جبال (سييرا نيفادا) وشواطئ نهر الوادي الكبير.. وتغلغلت في بساتين الزيتون وكروم العنب في سهول قرطبة، خلعت ملابسها وألقت نفسها في الماء، ومن هذا الاصطدام التاريخي بين الظمأ والري..

ولد الشعر الأندلسي.. هذا هو تفسيري الوحيد لهذا الانقلاب الجذري في القصيدة العربية حين سافرت إلي إسبانيا في القرن السابع، إنها بكل بساطة دخلت إلي قاعة مكيفة الهواء والموشحات الأندلسية ليست سوي (قصائد مكيفة الهواء) وكما حدث للقصيدة العربية في إسبانيا حدث لي.. امتلأت طفولتي رطوبة، وامتلأت دفاتري رطوبة، وامتلأت أبجديتي رطوبة».

عشق نزار كل ما وجده في إسبانيا، آثارها وحضارتها ورقصات الفلامنكو ومراوح الإسبانيات وجميلات إشبيلية وحتي مصارعة الثيران وشوارع غرناطة، وتحكي الكاتبة سلمي الحفار التي كانت تعيش وزوجها في مدريد في ذلك الوقت عن أثر إسبانيا في نزار: «كان في الأربعين من عمره إبان وجوده معنا فظهر تحول ملحوظ في شعره لتأثره بآثارنا فيها وفي الأندلس خاصة وانفتاحه علي ثقافات جديدة بل وحتي أسلوب مخاطبته المرأة»:

«إسبانيا..

جسر من البكاء..

يمتد بين الأرض والسماء..»

بقي نزار في الحقل الدبلوماسي متنقلاً ما بين القاهرة ولندن وبكين ومدريد إلي أن قرر الاستقالة في عام ١٩٦٦ ليتفرغ لرحلته في البحث عن الحب والجمال، ولكنه سرعان ما هزته أزمة ١٩٦٧ التي أحدثت شرخًا هائلاً في نفسه وكانت حدًا فاصلاً في حياته جعله يخرج من مخدع المرأة إلي ميدان السياسة:

«يا وطني الحزين

حوَّلتني بلحظةٍ

من شاعر يكتب شعر الحبِّ والحنين

لشاعرٍ يكتُبُ بالسكين..»

وأخرج ما بداخله من حزن وغضب في قصيدته «هوامش علي دفتر النكسة»:

«أنعي لكم، يا أصدقائي، اللغة القديمة

والكتب القديمة

أنعي لكم:

كلامنا المثقوب كالأحذية القديمة

ومفردات العهر، والهجاء، والشتيمة..

أنعي لكم..

أنعي لكم..

نهاية الفكر الذي قاد إلي الهزيمة»

ثارت عليه أقلام كثيرة في مصر تدعو بمنع دخول نزار قباني ومنع أغانيه في الإذاعة المصرية، مما أدهش نزار بشكل كبير:

«إذا خسرنا الحربَ، لا غرابة

لأننا ندخلها

بكل ما يملكه الشرقي من مواهب الخطابة

بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة

لأننا ندخلها

بمنطق الطبلةِ والربابة..

السرُّ في مأساتنا

صراخنا أضخم من أصواتنا

وسيفنا..

أطول من قاماتنا..

كتب إلي الرئيس جمال عبدالناصر خطابًا يقول فيه: «نشرت في أعقاب النكسة قصيدة عنوانها (هوامش علي دفتر النكسة) أودعتها خلاصة ألمي وتمزقي وكشفت فيها عن مناطق الوجع في جسد أمتي العربية لاقتناعي بأن ما انتهينا إليه لا يعالج بالتواري والهروب وإنما بالمواجهة الكاملة لسيئاتنا ولعيوبنا.. وإذا كانت صرختي حادة وجارحة وأنا أعترف سلفًا بأنها كذلك، فإن الصرخة تكون في حجم الطعنة ولأن النزيف بمساحة الجرح...

يا سيادة الرئيس لا أريد أن أصدق أن مثلك يعاقب النازف علي نزيفه والمجروح علي جراحه ويسمح باضطهاد شاعر عربي يريد أن يكون شريفًا وشجاعاً في ظل مواجهة نفسه وأمته فدفع ثمن صدقه وشجاعته».

فحسم عبدالناصر الموقف إذ أصدر أوامره: «تلغي كل التدابير التي قد تكون اتخذت خطأ بحق الشاعر ومؤلفاته ويدخل إلي الجمهورية العربية المتحدة متي أراد ويكرم فيها كما كان في السابق».

ولم تحقق أقلام من هاجموا نزار أغراضها في إسكاته، بل دعمه موقف الرئيس إذ زاده حبًا واحترامًا لشخص عبدالناصر وكتب خلال الأعوام اللاحقة عدة قصائد عن النكسة:

«لو أننا لم ندفن الوحدة في التراب

لو لم نمزق جسمها الطري بالحراب

لو بَقيتْ في داخل العيون والأهداب

لما استباحت لحمنا الكلاب..»

في سبتمبر ١٩٧٠ جاءته صدمة وفاة الرئيس جمال عبدالناصر:

«قتلناك..

يا حبنا وهوانا..

وكنت الصديق، وكنت الصدوق،

وكنت أبانا..

وحين غسلنا يدينا..

اكتشفنا..

بأنا قتلنا منانا..

أنادي عليك.. أبا خالدٍ

وأعرف أني أنادي بواد

وأعرف أنك لن تستجيب

وأن الخوارق ليست تعاد»

كتب في رثائه الهرم الرابع، رسالة إلي جمال عبدالناصر ثم إليه في يوم ميلاده التي ألقيت في يناير في ذكري ميلاد القائد جمال عبدالناصر:

«أحبك.. لا تفسير عندي لصبوتي

أفسر ماذا؟ والهوي لا يفسرُ

تأخرتَ يا أغلي الرجال، فليلُنا

طويلٌ، وأضواء القناديل تسهرُ

تأخرتَ.. فالساعاتُ تأكل نفسها

وأيامنا في بعضها تتعثرُ

تضيق قبور الميتين بمن بها

وفي كلِّ يومٍ أنت في القبر تكبرُ»

كان فقدان عبدالناصر صدمة قومية كبري وقاسية بلغت أقصي مداها عند نزار قباني حملت معه مرارة الفقدان وأيقظت تجاربه في وجدانه، ولما كان نزار متزوجًا بابنة عمه زهراء وله منها هدباء وتوفيق الذي حجز له مكانًا للحزن في قلب أبيه عندما علم بمرضه بالقلب حتي توفي بنوبة قلبية فرثاه بقصيدته الشهيرة «الأمير الدمشقي توفيق قباني»:

«مكسرة كجفون أبيك هي الكلمات..

ومقصوصة، كجناح أبيك، هي المفردات

وماذا سأكتب يا ابني؟

وموتك ألغي جميع اللغات..

أتوفيق..

إني جبان أمام رثائك..

فارحم أباك...»

«مات ابني توفيق في لندن، توقف قلبه عن العمل كما يتوقف طائر النورس عن الضرب، عمره اثنتان وعشرون سنة، إن رحيل توفيق المفاجئ أكد لي حقيقة لم أكن أعرفها وهي أن الصغار أشجع منا وأكثر منا قدرة علي فهم طبيعة هذه الرحلة التي يسمونها الموت»

وتوالت الأحزان علي قلب نزار حين توفيت والدته بعد ثلاث سنوات من وفاة ابنه، وقد كانت معني العشق والحنان والصداقة في حياته، «بموت أمي.. يسقط آخر قميص صوف أغطي به جسدي آخر قميص حنان.. آخر مظلة مطر.. وفي الشتاء القادم.. ستجدونني أتجول في الشوارع عاريا.. فيا أمي يا حبيبتي. يا فائزة.. قولي للملائكة الذين كلفتهم بحراستي خمسين عامًا، أن لا يتركوني.. لأنني أخاف أن أنام وحدي...»

لم تبق له سوي بلقيس الراوي «الكنز العظيم الذي عثرت عليه مصادفة حين كنت أقدم أمسية شعرية في بغداد عام ١٩٦٢».

وقد لاقي طلب زواجه منها معارضة كبيرة من قبيلتها في العراق لما اشتهر به من حديثه الجريء عن المرأة وعن علاقاته العاطفية:

«تزوجتني.. رغم أنف القبيلة

وسافرت معي..

رغم أنف القبيلة..

وعندما كنت أسألها: لماذا؟

كانت تأخذني كالطفل إلي صدرها

وتتمتم:

«لأنك قبيلتي..»

وكانت بلقيس الراوي هي حبه الكبير والأخير وكما كانت قصة حبهما عنيفة كانت حادثة موتها في انفجار السفارة العراقية ببيروت أثناء الحرب اللبنانية عام ١٩٨١، «كنت في مكتبي بشارع الحمراء حين سمعت صوت انفجار زلزلني من الوريد إلي الوريد بعدها جاء من ينعي إلي الخبر.. السفارة العراقية نسفوها.. فقلت بتلقائية بلقيس راحت.. شظايا الكلمات مازالت داخل جسدي.. أحسست أن بلقيس سوف تحتجب عن الحياة إلي الأبد وتتركني في بيروت ومن حولي بقاياها، كانت بلقيس واحة حياتي وملاذي وهويتي وأقلامي».

رثي نزار زوجته وحبيبته بقصيدة بلقيس التي حمَّل فيها العالم العربي مسؤولية موتها:

«شكرًا لكم

شكرًا لكم

فحبيبتي قتلت.. وصار بوسعكم

أن تشربوا كأسًا علي قبر الشهيدة

وقصيدتي اغتيلت

وهل من أمة في الأرض

- إلا نحن - تغتال القصيدة؟!»

رفض الزواج من بعدها لأنها كانت حبه الحقيقي الكبير ولم يماثل حزنه عليها سوي حزنه علي بيروت والتي كتب لها ديوان «إلي بيروت الأنثي مع حبي»:

«آه يا بيروت.. يا أنثاي من بين ملايين النساء

يا رحيلاً برتقاليا علي وردٍ.. وبرقوقٍ.. وماء..

يا طموحي - عندما أكتب أشعاري - لتقريب السماء»

بكي فيه علي العروبة التي ظل طوال عمره الشعري يغني لها وكان شعره السياسي خارجًا علي كل قانون، تجاوز فيه كل الخطوط الحمراء، لم يتملق ولم يهادن ولم يغفر للوطن العربي مقتل بلقيس:

«كنت أعرف أنها سوف تقتل..

فكلنا - دون استثناء - موضوعون علي قائمة الطعام

في هذا الوطن الذي احترف أكل مواطنيه..

والغريب.. أنهم يطالبون قبل أن يأكلونا..

أن نغني النشيد الوطني!!

ونأخذ التحية العسكرية لرئيس المائدة

وللغارسونات الذين يحيطون به..

أي نشيد وطني؟.. أي وطن؟..

حين تكون جثة المواطن العربي

مدفونة في مكان ما..

بين معدة الحاكم العربي..

وبين مصرانه الغليظ..»

وبالشجاعة ذاتها والعروبة التي قرر منذ اللحظة الأولي في تاريخه الشعري الدفاع عنها دون تزييف أو تضليل كتب قصيدته الشهيرة «متي يعلنون وفاة العرب»:

«أنا.. بعد خمسين عامًا

أحاول تسجيل ما قد رأيت

رأيت شعوبًا تظن بأن رجال المباحث

أمر من اللّه.. مثل الصداع.. ومثل الزكام

ومثل الجزام.. ومثل الحرب

رأيت العروبة معروضة في مزاد الأثاث القديم..

ولكنني.. ما رأيت العرب!!..

بعدها تعرض لأزمة قلبية في لندن كادت تودي به «عندما فتحت عيني في غرفة الإنعاش في مستشفي سان توماس لم أصدق ما تراه عيني فقد كان الوطن العربي كله جالسًا قرب سريري يذرف الدموع ويشهد الله أن ما لقيته من عشق الناس كان فوق ما أتوقع وأن أمطار الحنان التي تساقطت علي سريري اللندني لم تكن مجرد نهر صغير بل طوفانا حملني علي ذراعيه وأوصلني إلي شاطئ السلامة».

وكان نزار قد قرر أن يكتب سيرته الذاتية بنفسه رافضًا أن يكتبها أحد غيره «أريد أن أكتب قصتي في الشعر قبل أن يكتبها أحد غيري، أريد أن أرسم وجهي بيدي إذ لا أحد يستطيع أن يرسم وجهي أحسن مني، أريد أن أكشف الستائر عن نفسي بنفسي قبل أن يقصني النقاد ويفصلوني علي هواهم، قبل أن يخترعوني من جديد».

أمضي آخر أيام حياته في لندن «بيتوتيا» كما وصف نفسه فلم يكتب الشعر علي المقاهي أو في الطرقات «لقد كنت أؤمن أن العمل الأدبي عمل من أعمال العبادة له طقوسه ومراسمه وطهارته» فقد كان يكتب أشعاره في غرفة مغلقة مسدلة الستائر عاش نزار قباني في كل رحلاته وأشعاره يحلم بالعودة إلي دمشق

وأن يصبح جزءًا من تاريخها، «وأخيرًا شرفتني مدينة دمشق بوضع اسمي علي شارع من أكثر شوارعها جمالاً ونضارة وخضرة، هذا الشارع الذي أهدته دمشق إلي هو هدية العمر، وهو أجمل بيت أمتلكه علي تراب الجنة».

وهكذا ردت دمشق إلي عاشقها بعض الحب الذي أعطاه لها وظل يعطيه لها حتي آخر لحظات حياته بل وحتي عند وفاته: «أدفن في دمشق، الرحم الذي علمني الشعر وعلمني الإبداع وأهداني أبجدية الياسمين»، كانت هذه وصيته بأن يعود إلي دمشق عشقه الأول:

«أعود إلي دمشق

ممتطيا صهوة سحابة

ممتطيا أجمل حصانين في الدنيا

حصان العشق

وحصان الشعر

وفي ٣٠ أبريل ١٩٩٨، توقف القلب عن الحياة معلنًا صمتًا أبديا لشاعر وصف نفسه : «إنني خلطة حرية» وعاد إلي دمشق ملفوفًا بالعلم السوري وروحه الشاعرة تحوم حول جثمانه:

«حملت شعري علي ظهري فأتعبني

ماذا من الشعر يبقي حين أرتاح

ألا تجلسين قليلا ؟

ألا تجلسين قليلا

ألا تجلسين ؟

فإن القضية أكبر منك . . وأكبر مني

كما تعلمين ..

وما كان بيني وبينك ..

لم يكن نقشا على وجه ماء

ولكنه كان شيئا كبيرا كبيرا

كهذي السماء

فكيف بلحظة ضعف

نريد اغتيال السماء؟

ألا تجلسين لخمس دقائق أخرى ؟

ففي القلب شيء كثير

وحزن كثير

وليس من السهل قتل العواطف في لحظات

وإلقاء حبك في سلة المهملات

فإن تراثنا من الحب .. والشعر . . والحزن ..

والخبز . . والملح . . والتبغ . . والذكريات

يحاصرنا من جميع الجهات

فليتك تفكرين قليلا بما تفعلين

فإن القضية

أكبر منك . . وأكبر مني

كما تعلمين

أنا لا أحوال رد القضاء

ولكنني أشعر الآن أن التشنج ليس علاجا

لما نحن فيه

وأن الحماقة ليست طريق اليقين

وأن الشئون الصغيرة بيني وبينك

ليست تموت بتلك السهوله

وأن المشاعر لا تتبدل مثل الثياب الجميله

أنا لا أحوال تغيير رأيك

إن القرار قرارك طبعا

ولكنني أشعر الآن أن جذورك تمتد في القلب

ذات الشمال ، وذات اليمين

فكيف نفك حصار العصافير، والبحر

والصيف .. والياسمين ..

وكيف نقص بثانيتين؟

شريطا غزلناه في عشرات السنين

سأسكب كأسا لنفسي

وأنت ؟

تذكرت أنك لا تشربين

أنا لست ضد رحيلك . . لكن

أكره أن السماء ملبدة بالغيوم

وأخشى عليك سقوط المطر

فماذا يضيرك لو تجلسين ؟

لحين انقطع المطر

وماذا يضيرك ؟

لو تضعين قليلا من الكحل فوق جفونك

أنت بكيت كثيرا

ومازال وجهك رغم اختلاط دموعك بالكحل

مثل القمر

أنا لست ضد رحيلك

لكن ..

لدي اقتراح بأن نقرأ الآن شيئا من الشعر

علَّ قليلا من الشعر يكسر هذا الضجر

تقولين إنك لا تعجبين بشعري ..

سأقبل هذا التحدي الجديد

بكل برود . . وكل صفاء

وأذكر

كم كنت تحتفلين بشعري

وتحتضين حروفي صباح مساء

وأضحك ..

من نزوات النساء ..

فليتك سيدتي تجلسين

فإن القضية أكبر منك . .وأكبر مني

كما تعلمين ..

أما زلت غضبى ؟

إذا سامحيني ..

فأنت حبيبة قلبي على أي حال

سأفرض أني تصرفت مثل جميع الرجال

ببعض الخشونه

وبعض الغرور

فهل ذاك يكفي لقطع جميع الجسور ؟

وإحراق كل الشجر ..

أنا لا أحوال رد القضاء ورد القدر

ولكني أشعر الآن ..

أن علاقتك من عصب القلب صعب

وإعدام حبك صعب

وعشقك صعب ..

وكرهك صعب ..

وقتلك حلم بعيد المنال ..

فلا تعلني الحرب ..

إن الجميلات لا تحترفن القتال

ولا تطيقي النار ذات اليمين ، وذات الشمال

ففي آخر الأمر

لن تستطيعي اغتيال جميع الرجال
------------------
نزار قباني